إلى الناسخ الشامي

إلى الناسخ الشامي

كتبته: سارّة النوري

 ثلاثمائة وتسعة وثمانون عاماً مرّت على تلك اللحظة: التي نَقَلَتْهُ من رسم إلى رسم أثناء نسخه.. 

أنطقتها خبايا صدره الشامي..

وقد كان يكتب متن: (البهجة الوردية) باللون الأحمر، ويكتب شرحه: (خلاصة الفوائد) بالأسود.. 

بخط رائع الرسم، والسبك..

حتى جعل من نسخته: نسخة مليحة الألوان.. 

رشيقة الخط، معتدلة الأسطر.. 

كأنه يعذق فيها من بساتين الشام عذقاً.. 

وكل حضارة في الأرض نالت من سرحها الشامي عرقاً.. 

وقد دبّجها وطرّزها أحسن تطريز.. 

وجوّد خطه تجويداً يَسُرّ الناظرين..

ومازلت أتقلب بين سبائك الذهب والفضة، حتى وصلت إلى السطر الذي اضطربت له حواسي..

بل وتغرغرت بسببه عيناي.. 

ولم تفيضا! إذ حبستهما الدهشة!
بعد ما كادت العاطفة أن تسيلهما..

فقد تغير الخط فجأة!

ومال على جنبه..! 

ولم يعد الناسخ يكتب المتن بالأحمر، بل اكتفى بخط فوق الكلمة التي تكون متناً..!

أيا أيها الناسخ الشامي.. 

هل غشيك أمر فتماسكت؟

فاحتملته بطول أناته؟ 

واحتويته بخلق منك وادع..!

هل قَصَر عليك الحبر الأحمر؟

وقد انقَبَضْتَ عن طلبه حياء؟

فاكتفيت بخط فوق الكلمة، بعد ما كان اللون الأحمر يبرق به المتن ويرعد؟ 

هل آلمتك أطرافك من النسخ فمال الحرف، واخترتَ أن يميل ولا يقف؟
هل عرض لك عارض جعلك تستعجل؟ 

أيا أيها الناسخ الشامي.. 

كم حرف تجرعت الغصص وأنت تكتبه؟ 

أي حرف نسخته في السراء؟

وأي حرف كان في الضراء؟

وقد شاطرت نسختك الرخاء والجهد.. 

كم ليلة سامرتها وجالستها، حتى نبتت بينك وبينها ثمرة موثقة العرى، متينة الأسباب؟ 

وقد كانت آخر كلمة معتدلة في اللوحة [١١٥/أ] كلمة (الصلاة) ثم مال القلم بعدها ركوعاً وسجوداً؛ لأمر خبأتَه في صدرك.. 

أيا أيها الناسخ الشامي.. 

عَطَفَتْ عليك الأحرف بعد ما أملتَها..

وقد أشرقت ألوان الحروف كعادتها، ولم تنطفئ.. 

وما ضر الحروف لو اسودت كلها؟ 

وها نحن منتبهات معك..

هل ظننت يوماً أن الله سيجعل امرأة فقيرة مثلي تلقي على هذا الجزء من النسخة برخمتها، وترفرف عليه بجناح عاطفتها؟

ويتردد من أجله دمعها، بعد  ثلاثمائة وتسعة وثمانين عاماً من نسخك لها؟

وإني والله قد وجدت بين الرسمين همة بعيدة..
سارت فأبعدت حتى أوصلها الله إلينا.. 

تركتَ الأحرف تميل، ولم تقف.. 

وقد جعلتَ من مليانها حُنُّو على الورق.. 

أليس الحب ميل النفس؟

فتلك الحروف قد مالت للورق من حنين الوجد.. 

مسحتَ أعشار مافي قلبي في ذلك اليوم بميلان خطك.. 

وقد وجدت في ذلك الميلان بريقاً مؤثراً.. 

فإن مال قلمي بعد قلمك لظرف ما،  فسأجعله ميلان حب.. 

وما ضر القلم أن لا يبرق ولا يرعد.. 

إلى الناسخ الشامي.. 

ها هي نسختك قد أذن الله لها أن تخرج من بين عشرات النسخ بعد ثلاثمائة وتسعة وثمانين عاماً لتكون نسخة من النسخ المعتمدة لكتاب أسهرت فيه ليلك وأجهدت فيه نهارك وأنت تنسخه.. 

ولسان حالك يقول:

إياك أن تيأس فكل الصابرين قد جُبروا..

وما نتج نتاج إلا بعد ألف معركة في العقل.. 

وألف كسر في القلب.. 

وألفي مَيْل حب احتوى كل المعارك والكسور..

وقد قالها إمام مذهبك الذي كنت تنسخ في مذهبه - الإمام الشافعي رحمه الله-: (سيروا إلى الله عرجاً ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة). 

إن الكلمات والأسطر في نسخ المخطوطات: حَيَوات.. 

فلكل كلمة في السطر حياة بين صعود ونزول.. 

وما أسعد الرجال بأن جعل الله لشقيقاتهم النساء في العلم مدخلاً.. 

فإن بعض النساء إذا أخذن هذا العلم وباشرنه بأيديهن؛ جعلن من صلب الحديد فيه، ملمساً ألين من العهن، واحتملنه فأرهفن طبعه..

وحتى لو كان العلم تحقيقاً.. 

فإن كان الناسخ قد كتب (غيث): (عبت).. 

فإنها تكتب:

 في (د): عبت. 

ويتبع خاطرها الخطأ بقولها: ولعله تعب فأخطأ، كتب الله أجره.. 

وإن سقطت من النسخة (به) فإنها تكتب: قوله (به) سقط من (د):

ولعله مرض.. 

ولعل الأهل تعبوا.. 

ولعله ظرف.. 

ولعل شظف العيش أثر به.. 

ولعل السراج انطفأ.. 

ولعل الحزن ألم به في ليلته تلك.. 

فهن مع هذا العلم مشتركات الخواطر، متوزعات القلب..
وهكذا تكون المرأة إذا رخمت.. 

رحمك الله أيها الناسخ الشامي..