شرف الانسحاب


كتبته: سارة النوري

روي أن أبا علي الفارسي مَرَّ بالجامع، فرأى أبا الفتح بن جني في حلقة يقرئ النحو وهو شاب، فسأله أبو علي عن مسألة في التصريف، فقصّر فيها، فقال له أبو علي:

                      (تزبّبت وأنت حِصْرِم)! 

أي جعلت من نفسك زبيباً مع كونك كالعنب الأخضر قبل استوائه.. 

أدرك الحياء ابن جني بعد سماع كلمة الشيخ، فترك حلقته، وهَمَّ ليستكمل آلته، ولازم أبا علي الفارسي حتى تمهّر..

ومن تأمل حالنا اليوم لوجد أن الساحة العلمية قد امتلأت بمن سلك مسلك ابن جني رحمه الله قبل تنبيه شيخه.. 

وربما وردت على مسامع هؤلاء نصائح كنصائح الفارسي، إلا أننا لا ندري أفي سمعهم وَقَر، أم حال بينهم وبين الناصح البصر..


وقد داهم بصنيعهم صدر هذه الساحة حزاز من الغم، فباتت تعالج برحاء الهموم من صنيع بعض طالبات العلم وطلبته، حتى ظننت أننا في سنوات خدّاعات..


وإني والله لأعجب أن نجد بين حاضنات العلم وطالبات التحصيل، من انخدعت بالعلم الذي تعلمته..


وهل تنخدع طالبة العلم بعلمها؟


نعم..

تنخدع بعلمها..

وتنخدع بسنواتها وأسفارها التي انقطعت فيها للطلب..

وتنخدع بعزيمة ماضيها وحاضرها، ومابلغته من التعب..


أنا لا أتكلم عن فاسدات النوايا، المتفاخرات بالعلم..

إنما أتكلم عن تلك الطالبة التي غاصت في ميادين العلم..

واستنزفت أيامها في معاناته..

وشدت الرحال في البحث والتنقيب والاطلاع..

ولكنها خُدعت بهذا البذل، وتربعت على مناصب خدّاعات..

وأقبلت على ثناء الناس بمسامعها؛ فَبَنَت قيمتها العلمية وأهليتها، وفق تلك الممادح، وتلك المشاق التي بذلتها..

وهذا والله لعين الاغترار، ونسيان حقيقة الذات.. 

فقد تنسى حاضنة العلم حقيقة نفسها، وتبني لها قيمة علمية وفق تلك الممادح التي لا تقدم ولا تؤخر ولا تغير من الحقيقة..

وربما دنت، وتدلت..

وأقبلت، وتصدرت..

فانتهى إليها الأمر بتنزيل نفسها أهم منزلة، وأعلا وظيفة دينية في الإسلام، وهي:


                         (منزلة الإفتاء)


يا حاضنة العلم..

إن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع..

مسؤولية خطيرة، وأمانة جسيمة..

لأن المفتي وارث الأنبياء عليهم السلام.. 

ولهذا قالوا المفتي موقع عن الله عز وجل. 

وقد فقه العلماء عظم منزلة الإفتاء وخطرها، ولذا روي عن الإمام مالك أنه قال: (ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك).

وقد كان السلف يهابون الفتيا ويرتعدون منها!

حتى قال الشعبي والحسن وغيرهما: (إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر!).


فلنتأمل..


بل إن خطر الفتوى أعظم من خطر القضاء، وفي ذلك يقول ابن القيم في إعلام الموقعين:


(فكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى؛ فإن فَتْوَاه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره. وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص، لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله؛ فالمفتي يفتي حكما عاماً  كلياً أن: من فعل كذا ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا).


والله إنه ليحزنني أن أجد الجرأة من بعض طالبات العلم في مجاوزة  النصوص الكثيرة التي وردت في  الفتيا وحقيقتها وشروطها، فيقتحمن ساحة الإفتاء بغير علم راسخ، ولا أهلية اجتهادية، ولا تزكيات حقيقية..


فنجد طالبة العلم تفتي وتظن أنها قد بلغت مبلغ السداد..

والحقيقة أنها تُشرق وتغرب، وتلت بالدقيق وتعجن..

وتأتي بكلام لا يثبت على السبك، وهي لا تدري..

وتناقض الأصول بضرب من الخبط، وهي لا تشعر..

فتفتي في مسألة ثم أخرى، ولم تعلم بأن الثانية ناقضت أصل الأولى، لعدم رسوخ ميزانها الأصولي.. 

ولو اطلع الفقيه على حالها لعلم بجلاء نقص آلتها..

وليس كل من تخصص في الشرعيات بات فقيهاً أو مفتياً، والفقه لم ينحصر يوماً بين حديث صحيح وضعيف، إنما هو بحرٌ خضم من العلم الشمولي بالكتاب والسنة وقواعد اللغة العربية ومذاهب المتقدمين، والإحاطة بطرق القياس ومراتب الأدلة، مع تحقق الورع والتقوى. 

ولا تعجب أيها القارئ كيف يمكن للجرأة الممزوجة بالثقة أن تصاحب نقص الآلة، فعن سفيان بن عيينة وسحنون قالا: (أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما).


ولتنتبه حاضنة العلم، من أن تبرر جرأتها بأن كلامها قد وافق الفتاوى، ولم يخرج عن نطاق أقوال العلماء..

فليس في الموافقة شفاعة، ولا نجاة..

يقول النووي في شرح مسلم: (فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقه ليست صادرة عن أصل شرعي).

وربما جرّتها هذه الثقة بنفسها أن تتكلم بلسان العلماء الكبار فتتكلم من قاع فمها..

وتستعمل عبارات المشيخة وجهابدة أهل النظر فتقول:

نقول..وقلنا..ونحن..ونرى..ونرجح..وقلت..وعندنا، ولنا..ونحوه..


فتتشبع بما لم تعط..

وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).


وقد يتفاقم حال بعضهن، فنجد إحداهن قد أفرغت وعاء قلبها من العرفان القديم..

فترى أن لها فضلاً على المشايخ، وطلبة العلم، بعد أن كانت تسألهم عن صغار المسائل وأدناها..

وتكثر من الانتقاص والانتقاد، وهذه خصلة لا تليق بمن طلب علم الكتاب والسنة وتعلم منهج السلف الكرام وآدابهم..

وغالب من تجرأن في التصدر والإفتاء؛ حينما أتأمل حالهن: أجدهن قد جمعن بينها وبين كثرة انتقاد وانتقاص الغير، إما على سبيل التعيين أو على سبيل الإشارة والتعريض.. 

ولا أدري ما السر في ذلك..


يا حاضنات العلم: الْزَمْن الحدود..

ألا يسعنا بذل الجهد في كتابة الأبحاث العلمية، وعرضها على العلماء قبل نشرها، والمشاركة في ميادين التعليم المحدودة، ومواصلة خفض النفس تحت مظلة العلماء وعدم مجاوزتها؟

فإن الإفادة بهذه الطريقة هي اللائقة بطالبة العلم، بخلاف التلبس بثوب الإفتاء فإنه لا يصلح لأمثالنا..

فلا تستعجلن المناصب، فإن المناصب خدّاعات.! 

وليست شروط الإفتاء بتواجد الجمهور وعلو الصيت والشهرة، ولا بكثرة التلاميذ، ولا في موافقة أقوال العلماء، أو مدح وثناء الناس..

بل لو أننا عرضنا  أنفسنا على شروط الإفتاء الذي ذكرها العلماء، لقَبَضَنا وازع الحشمة،  ولجرى على صفحات وجهنا ماء الحياء، فمن تلك التي تقوى على القول: أنا لها؟

ولا يلتبس على طالبة العلم مطلب الحاجة، كحاجة الناس لامرأة مفتية، فتلقي بنفسها بغير أهلية راسخة للإفتاء بحجة الحاجة وسد الثغر، ولو رجعنا إلى منبع العلم، لوجدنا أن الأنبياء رجال أرسلهم الله للصنفين، والمرأة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا تسأل العلماء الربانيين عند حاجتها..

ولا حرج على المرأة إن احتاجت أن تستفتي في دينها ودنياها أن تسأل العلماء الرجال أو ترسل محارمها للسؤال، فإن الأمر يسير مادام منضبطاً  بالضوابط الشرعية.. 

لاشك أن النفس لتأنس بتواجد الفقيهات، وتأمل بظهور المفتيات، إلا أن المرأة تفتي إذا تحققت لها شروط الإفتاء والاجتهاد، لا بغير ذلك، ولذا نجد الكثير من حاضنات العلم قد بَرَعن في العلم والفقه، وحفتهن تزكيات العلماء الكبار، ومع ذلك لم ينخدعن ببريق الممادح والشهرة والتزكيات، وعرفن قدر أنفسهن وقدر تلك التزكيات، فالتزكية في الدين أو العلم تختلف تماماً عن التزكية الصريحة لأهلية الفتيا..

ياحاضنة العلم، إن في الانسحاب شرف لا عيب فيه..

فخوضك الساحة لا يمنع انسحابك..

وتأملن قول الإمام مالك: (ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقيل له: يا أبا عبد الله! فلو نهوك؟ قال كنت أنتهي).

فكم من طالبة علم قد نُهيت ونُهيت، فما انتهت ولا هابت..

فمن ارتسمت على لوحة قلبها مخافة الله فلتنسحب..

ولتنته، فإن  الانسحاب شرف لا عيب فيه..


تعليقات

  1. جميل سلمت يمينك، والخلاصة في هذا الباب ان باب الافتاء ليس مغلقا على النساء ولكن لا بد من تحقيق شروطه والتزام الورع وتطلب مشورة من هو اعلم وتزكيته.
    اسال الله ان يرزقنا التقى والسداد

    ردحذف

إرسال تعليق